رسالة في وجوب نصر الدين ودحر الكفر والكافرين بما يُستطاع للمسلمين الشيخ محمد بن إبراهيم المصري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أعلى معالم الدين وأعلامه، وأظهر شعائر الشرع وأحكامه، ببعثه إلى خلقه رسوله محمدًا بالحق والهدى؛ ليظهر الإسلام على الدين كله ويقهر العِدا.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد؛ إمام المجاهدين، وعلى آله الطاهرين، وصحبه الميامين.
أما بعد...
فإنه «لما كان الجهاد ذِروةَ سَنَامِ الإسلام وقُبَّتَه، ومنازِلُ أهله أعلى المنازل في الجنة، كما لهم الرِّفْعَةُ في الدنيا، فهم الْأَعْلَوْنَ في الدنيا والآخرة، كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في الذِّروةِ العُليا منه، واستولى على أنواعه كُلِّها فجاهد في الله حقَّ جهاده بالقلب، والجَنانِ، والدَّعوة، والبيان، والسيف، والسَّنَانِ، وكانت ساعاته موقوفةً على الجهاد، بقلبه، ولسانه، ويده. ولهذا كان أرفع العالمين ذكرًا، وأعظمهم عند الله قدرًا.
وأمره الله تعالى بالجهاد من حين بعثه، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} [الفرقان]، فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار بالحجة والبيان وتبليغ القرآن، وكذلك جهاد المنافقين إنما هو بتبليغ الحجة، وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ (73)} [التوبة] فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواص الأمة وورثة الرسل، والقائمون به أفراد في العالم، والمشاركون فيه والمعاونون عليه وإن كانوا هم الأقلين عددًا؛ فهم الأعظمون عند الله قدرًا.
ولما كان من أفضل الجهاد قول الحق مع شدة المعارض، مثل أن تتكلم به عند من تخاف سطوته وأذاه، كان للرسل -صلوات الله عليهم وسلامه- من ذلك الحظ الأوفر، وكان لنبينا -صلوات الله وسلامه عليه- من ذلك أكمل الجهاد وأتمه»(1).
وكان واجبا علينا متابعة منهاج رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ونصر دين الله -تبارك وتعالى-.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى الله قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ الله فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)} [الصف].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ الله وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ إِنَّ الله كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وَكَفَى بِالله وَكِيلًا (3)} [الأحزاب].
وقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «جَاهِدُوا المُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ»(2).
وقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا؛ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؛ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؛ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»(3).
وقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ؛ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ»(4).
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: «هذا الحديث يدل على أنه يجب على الإنسان أن يكون مستعدا لنصرة دين الله، فإما أن يباشر ذلك بنفسه، وإما أن يحدث نفسه بأنه متى حصل جهاد في سبيل الله جاهد وإلا مات على شعبة من النفاق»(5).
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في «زاد المعاد» (3/ 11: 16):
فصل
إذا عرف هذا فالجهاد أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين.
فجهاد النفس أربع مراتب أيضا:
إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى، ودين الحق، الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها علمه؛ شقيت في الدارين.
الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله.
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله.
فإذا استكمل هذه المراتب الأربع: صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيًّا حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه، فمن علم وعمل وعلم فذاك يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات.
فصل
وأما جهاد الشيطان فمرتبتان، إحداهما: جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان.
الثانية: جهاده على دفع ما يلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات.
فالجهاد الأول يكون بعده اليقين، والثاني: يكون بعده الصبر. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة]. فأخبر أن إمامة الدين إنما تنال بالصبر واليقين، فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات.
ولا يتم الجهاد إلا بالهجرة، ولا الهجرة والجهاد إلا بالإيمان، والراجون رحمة الله هم الذين قاموا بهذه الثلاثة. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ الله أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)} [البقرة].
وكما أن الإيمان فرض على كل أحد؛ ففرض عليه هجرتان في كل وقت: هجرة إلى الله -عز وجل- بالتوحيد، والإخلاص، والإنابة، والتوكل، والخوف، والرجاء، والمحبة، والتوبة، وهجرة إلى رسوله؛ بالمتابعة، والانقياد لأمره، والتصديق بخبره، وتقديم أمره وخبره على أمر غيره وخبره: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُولِهِ؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».
وفرض عليه جهاد نفسه في ذات الله، وجهاد شيطانه، فهذا كله فرض عين لا ينوب فيه أحد عن أحد.
وأما جهاد الكفار والمنافقين: فقد يكتفى فيه ببعض الأمة إذا حصل منهم مقصود الجهاد.
فصل
وأكمل الخلق عند الله: من كمل مراتب الجهاد كلها، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله تفاوتهم في مراتب الجهاد، ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على الله خاتم أنبيائه ورسله، فإنه كمل مراتب الجهاد، وجاهد في الله حق جهاده، وشرع في الجهاد من حين بعث إلى أن توفاه الله -عز وجل-، فإنه لما نزل عليه: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر]، شمر عن ساق الدعوة، وقام في ذات الله أتم قيام، ودعا إلى الله ليلًا ونهارًا، وسرًّا وجهارًا.
ولما نزل عليه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: ٩٤] فصدع بأمر الله لا تأخذه فيه لومة لائم، فدعا إلى الله الصغير والكبير، والحر والعبد، والذكر والأنثى، والأحمر والأسود، والجن والإنس.
ولما صدع بأمر الله وصرح لقومه بالدعوة، وناداهم بسب آلهتهم، وعيب دينهم: اشتد أذاهم له، ولمن استجاب له من أصحابه، ونالوه ونالوهم بأنواع الأذى، وهذه سنة الله -عز وجل- في خلقه؛ كما قال تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت: ٤٣]، وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: ١١٢]، وقال: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)} [الذاريات].
فعزى سبحانه نبيه بذلك، وأن له أسوة بمن تقدمه من المرسلين، وعزى أتباعه بقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلَا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ (214)} [البقرة].
فليتأمل العبد سياق هذه الآيات، وما تضمنته من العبر وكنوز الحكم، فإن الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين، إما أن يقول أحدهم: آمنا. وإما ألا يقول ذلك، بل يستمر على السيئات والكفر.
فمن قال: آمنا. امتحنه ربه، وابتلاه، وفتنه، والفتنة: الابتلاء والاختبار؛ ليتبين الصادق من الكاذب.
ومن لم يقل: آمنا. فلا يحسب أنه يعجز الله، ويفوته، ويسبقه؛ فإنه إنما يطوي المراحل في يديه.
وَكَيْــفَ يَفِــرُّ المَرْءُ عَنْهُ بِذَنْبِهِ
إِذَا كَانَ تُطْوَى فِي يَدَيْهِ المَرَاحِلُ
فمن آمن بالرسل، وأطاعهم: عاداه أعداؤهم، وآذوه؛ فابتلي بما يؤلمه.
وإن لم يؤمن بهم، ولم يطعهم: عوقب في الدنيا والآخرة؛ فحصل له ما يؤلمه، وكان هذا المؤلم له أعظم ألما، وأدوم من ألم اتباعهم.
فلابد من حصول الألم لكل نفس؛ آمنت، أو رغبت عن الإيمان، لكن المؤمن: يحصل له الألم في الدنيا ابتداء، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة.
والمعرض عن الإيمان: تحصل له اللذة ابتداء، ثم يصير إلى الألم الدائم.
وسئل الشافعي -رحمه الله- أيما أفضل للرجل: أن يمكَّن، أو يبتلى؟ فقال: لا يُمَكَّنَ حتى يبتلى.
والله تعالى ابتلى أولي العزم من الرسل، فلما صبروا مَكَّنَهم، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة، وإنما يتفاوت أهل الآلام في العقول:
فأعقلهم: من باع ألمًا مستمرًّا عظيمًا بألم منقطع يسير.
وأشقاهم: من باع الألم المنقطع اليسير بالألم العظيم المستمر».
--------------------------------------------------------------------
(1) من «زاد المعاد في هدي خير العباد» (3/ 7).
(2) أخرجه أبو داود (2504)، والنسائي (3097)، وغيرهما، من طريق حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، عن أنس -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
قال الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (7/ 265): «إسناده صحيح على شرط مسلم، وكذلك قال الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان».
(3) أخرجه مسلم (49)، وغيره، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
(4) أخرجه مسلم (1910)، وغيره، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.